الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
الحادية والعشرون: المواشي على قسمين: ضواري وحَريسة وعليهما قسمها مالك.فالضواري هي المعتادة للزرع والثمار، فقال مالك: تُغرَّب وتباع في بلد لا زرع فيه؛ رواه ابن القاسم في الكتاب وغيره.قال ابن حبيب: وإن كره ذلك ربها، وكذلك قال مالك في الدابة التي ضريت في إفساد الزرع: تغرّب وتباع.وأما ما يستطاع الاحتراس منه فلا يؤمر صاحبه بإخراجه.الثانية والعشرون: قال أصبغ: النحل والحمام والإوز والدجاج كالماشية، لا يمنع صاحبها من اتخاذها وإن ضريت، وعلى أهل القرية حفظ زروعهم.قال ابن العربي: وهذه رواية ضعيفة لا يلتفت إليها من أراد أن يتخذ ما ينتفع به مما لا يضره بغيره مُكِّن منه، وأما انتفاعه بما يتخذه بإضراره بأحد فلا سبيل إليه.قال عليه السلام: «لا ضرر ولا ضرار» وهذه الضواري عن ابن القاسم في المدينة لا ضمان على أربابها إلا بعد التقدّم.ابن العربي: وأرى الضمان عليهم قبل التقدّم إذا كانت ضواري.الثالثة والعشرون: ذكر عبد الرزاق عن معمر عن قتادة عن الشعبي أن شاة وقعت في غزل حائك فاختصموا إلى شُرَيح، فقال الشَّعبي: انظروه فإنه سيسألهم ليلًا وقعت فيه أو نهارًا؛ ففعل.ثم قال: إن كان بالليل ضمن، وإن كان بالنهار لم يضمن، ثم قرأ شريح {إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ القوم} قال: والنَّفش بالليل والهَمَل بالنهار.قلت: ومن هذا الباب قوله صلى الله عليه وسلم: «العجماء جرحها جبار» الحديث.قال ابن شهاب: والجبار الهدر، والعجماء البهيمة، قال علماؤنا: ظاهر قوله: «العجماء جرحها جبار» أن ما انفردت البهيمة بإتلافه لم يكن فيه شيء، وهذا مجمع عليه.فلو كان معها قائد أو سائق أو راكب فحملها أحدهم على شيء فأتلفته لزمه حكم المتلف؛ فإن كانت جناية مضمونة بالقصاص وكان الحمل عمدًا كان فيه القصاص ولا يختلف فيه؛ لأن الدابة كالآلة.وإن كان عن غير قصد كانت فيه الدية على العاقلة.وفي الأموال الغرامة في مال الجاني.الرابعة والعشرون: واختلفوا فيمن أصابته برجلها أو ذنبها، فلم يضمّن مالك والليث والأوزاعي صاحبها، وضمّنه الشافعي وابن أبي ليلى وابن شُبْرُمة.واختلفوا في الضارية فجمهورهم أنها كغيرها، ومالك وبعض أصحابه يضمنونه.الخامسة والعشرون: روى سفيان بن حسين عن الزهري عن سعيد بن المسيّب عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الرِّجل جبار» قال الدارقطني: لم يروه غير سفيان بن حسين ولم يتابع عليه، وخالفه الحفاظ عن الزهري منهم مالك وابن عيينة ويونس ومعمر وابن جريج والزبيدي وعقيل وليث بن سعد، وغيرهم كلهم رووه عن الزهري فقالوا: «العجماء جبار والبئر جبار والمعدن جبار» ولم يذكروا الرِّجل وهو الصواب.وكذلك رواه أبو صالح السمان، وعبد الرحمن الأعرج، ومحمد بن سيرين، ومحمد بن زياد وغيرهم عن أبي هريرة، ولم يذكروا فيه «والرِّجل جبار» وهو المحفوظ عن أبي هريرة.السادسة والعشرون: قوله: «والبئر جُبار» قد روي موضعه «والنار جبار» قال الدارقطني: حدّثنا حمزة بن القاسم الهاشمي حدّثنا حنبل بن إسحاق قال: سمعت أبا عبد الله أحمد بن حنبل يقول في حديث عبد الرزاق: حديث أبي هريرة «والنار جبار» ليس بشيء، لم يكن في الكتاب، باطل ليس هو بصحيح.حدّثنا محمد بن مخلد حدّثنا أبو إسحاق إبراهيم بن هانىء قال: سمعت أحمد بن حنبل يقول: أهل اليمن يكتبون النار النير ويكتبون البير؛ يعني مثل ذلك.وإنما لقن عبد الرزاق «النار جبار». وقال الرمادي: قال عبد الرزاق قال معمر لا أراه إلا وَهَمًا.قال أبو عمر: روي عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث معمر عن همام بن منبه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «النار جبار» وقال يحيى بن معين: أصله البئر ولَكِن معمرًا صحّفه.قال أبو عمر: لم يأتِ ابن معين على قوله هذا بدليل، وليس هكذا ترد أحاديث الثقات. ذكر وكيع عن عبد العزيز بن حصين عن يحيى بن يحيى الغساني قال: أحرق رجل سافي قَرَاح له فخرجت شرارة من نار حتى أحرقت شيئًا لجاره.قال: فكتب فيه إلى عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه ابن حصين فكتب إلى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «العجماء جبار» وأرى أن النار جبار.وقد روي «والسائمة جبار» بدل العجماء فهذا ما ورد في ألفاظ هذا الحديث ولكل معنى لفظ صحيح مذكور في شرح الحديث وكتب الفقه.قوله تعالى: {وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الجبال يُسَبِّحْنَ} قال وهب: كان داود يمر بالجبال مسبّحًا والجبال تجاوبه بالتسبيح، وكذلك الطير.وقيل: كان داود إذا وجد فترة أمر الجبال فسبحت حتى يشتاق؛ ولهذا قال: {وَسَخَّرْنَا} أي جعلناها بحيث تطيعه إذا أمرها بالتسبيح.وقيل: إن سيرها معه تسبيحها، والتسبيح مأخوذ من السباحة؛ دليله قوله تعالى: {يا جبال أَوِّبِي مَعَهُ} [سبأ: 10].وقال قتادة: {يُسَبِّحْنَ} يصلين معه إذا صلى، والتسبيح الصلاة.وكل محتمل.وذلك فعل الله تعالى بها؛ ذلك لأن الجبال لا تعقل فتسبيحها دلالة على تنزيه الله تعالى عن صفات العاجزين والمحدثين.{وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ (80)} فيه ثلاث مسائل:الأولى: قوله تعالى: {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ} يعني اتخاذ الدروع بإلانة الحديد له، واللبوس عند العرب السلاح كله؛ درعًا كان أو جَوْشنًا أو سيفًا أو رمحًا.قال الهُذَلي يصف رمحًا:
واللبوس كل ما يلبس، وأنشد ابن السكيت: وأراد الله تعالى هنا الدّرع، وهو بمعنى الملبوس نحو الرّكوب والحلوب.قال قتادة: أوّل من صنع الدروع داود.وإنما كانت صفائح، فهو أوّل من سردها وحلقها.الثانية: قوله تعالى: {لِتُحْصِنَكُمْ} ليحرزكم.{مِّن بَأْسِكُمْ} أي من حربكم. وقيل: من السيف والسهم والرمح، أي من آلة بأسكم فحذف المضاف. ابن عباس: {مِنْ بَأسِكُمْ} من سلاحكم. الضحاك: من حرب أعدائكم. والمعنى واحد.وقرأ الحسن وأبو جعفر وابن عامر وحفص وروح {لِتُحْصِنَكُمْ} بالتاء ردًا على الصنعة. وقيل: على اللبوس والمنعة التي هي الدروع. وقرأ شيبة وأبو بكر والمفضل ورويس وابن أبي إسحاق {لِنُحْصِنَكُمْ} بالنون لقوله: {وَعَلَّمْنَاهُ}.وقرأ الباقون بالياء جعلوا الفعل للبوس، أو يكون المعنى ليحصنكم الله.{فَهَلْ أَنتُمْ شَاكِرُونَ} أي على تيسير نعمة الدروع لكم.وقيل: {هَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ} بأن تطيعوا رسولي.الثالثة: هذه الآية أصل في اتخاذ الصنائع والأسباب، وهو قول أهل العقول والألباب، لا قول الجهلة الأغبياء القائلين بأن ذلك إنما شرع للضعفاء، فالسبب سنة الله في خلقه فمن طعن في ذلك فقد طعن في الكتاب والسنة، ونسب من ذكرنا إلى الضعف وعدم المنة.وقد أخبر الله تعالى عن نبيه داود عليه السلام أنه كان يصنع الدروع، وكان أيضًا يصنع الخوص، وكان يأكل من عمل يده، وكان آدم حراثًا، ونوح نجارًا، ولقمان خياطًا، وطالوت دباغًا.وقيل: سقاء؛ فالصنعة يكفّ بها الإنسان نفسه عن الناس، ويدفع بها عن نفسه الضرر والباس.وفي الحديث: «إن الله يحب المؤمن المحترف الضعيف المتعفِّف ويبغض السائل الملحِف» وسيأتي لهذا مزيد بيان في سورة الفرقان. وقد تقدم في غير ما آية، وفيه كفاية والحمد لله. اهـ.
قال قتادة: كانت صفائح فأول من سردها وحلقها داود فجمعت الخفة والتحصين.وقيل: اللبوس كل آلة السلاح من سيف ورمح ودرع وبيضة وما يجري مجرى ذلك، وداود أول من صنع الدروع التي تسمى الزرد.قيل: نزل ملكان من السماء فمرا بداود فقال أحدهما للآخر: نعم الرجل إلاّ أنه يأكل من بيت المال، فسأل الله أن يرزقه من كسبه فألان له الحديد فصنع منه الدروع امتن تعالى عليه بإيتائه حكمًا وعلمًا وتسخير الجبال والطير معه وتعليم صنعة اللبوس، وفي ذلك فضل هذه الصنعة إذ أسند تعليمها إياه إليه تعالى.ثم امتن علينا بها بقوله: {ليحصنكم من بأسكم} أي ليكون وقاية لكم في حربكم وسبب نجاة من عدوّكم.وقرئ {لُبوس} بضم اللام والجمهور بفتحها.وقرأ الجمهور: ليحصنكم بياء الغيبة أي الله فيكون التفاتًا إذ جاء بعد ضمير متكلم في {وعلمناه} ويدل عليه قراءة أبي بكر عن عاصم بالنون وهي قراءة أبي حنيفة ومسعود بن صالح ورويس والجعفي وهارون ويونس والمنقري كلهم عن أبي عمرو ليحصنكم داود، واللبوس قيل أو التعليم.وقرأ ابن عامر وحفص والحسن وسلام وأبو جعفر وشيبه وزيد بن على بالتاء أي {لتحصنكم} الصنعة أو اللبوس على معنى الدرع ودرع الحديد مؤنثة وكل هذه القراءات الثلاث بإسكان الحاء والتخفيف.وقرأ الفقيمي عن أبي عمرو وابن أبي حماد عن أبي بكر بالياء من تحت وفتح الحاء وتشديد الصاد، وابن وثاب والأعمش بالتاء من فوق والتشديد واللام في {لكم} يجوز أن تكون للتعليل فتتعلق بعلمناهـ. أي لأجلكم وتكون {لتحصنكم} في موضع بدل أعيد معه لام الجراذ الفعل منصوب بإضمار إن فتتقدّر بمصدر أي {لكم} لإحصانكم {من بأسكم} ويجوز أن تكون {لكم} صفة للبوس فتتعلق بمحذوف أي كائن لكم، واحتمل أن يكون ليحصنكم تعليلًا للتعليم فيتعلق بعلمناهـ. وأن يكون تعليلًا للكون المحذوف المتعلق به {لكم} {فهل أنتم شاكرون} استفهام يتضمن الأمر أي اشكروا الله على ما أنعم به عليكم كقوله: {فهل أنتم منتهون} أي انتهوا عما حرم الله. اهـ.
|